عزمي بشارة: جرائم الحرب.. أفكار حول معنى المحاكمةَ
إن القانون الجنائي لا يفرق بين المحتل والواقع تحت الاحتلال
نقطة قوة هذه المحكمة (محكمة الجنايات الدولية) هي نقطة ضعفها. فالقانون الجنائي يحاسب أفرادا ويحملهم مسؤولية فردية. وبالتالي، يحقق أثرا رادعا على الأفراد الذين ينفذون وأولئك الذين يصدرون الأوامر.
والاحتكام إليه لا يتطلب تنازلا عن مبادئ أو القبول بقانونية كيانات غير معترف بها، ولا يتنازل عن حق المقاومة. كما أن في هذه الحالة ليست هي المدعي، بل هنالك نوع من «حق عام» دولي افتراضي يجسده المدعي العام، في حين أن المدعى عليه هو مسؤولون عسكريون أو سياسيون بصفتهم الفردية كمجرمين يتحملون مسؤولية أفعالهم لا كدول.
ولكن نقطة الضعف هي أنه لا يسري حيث يوجد قضاء محلي قادر على المحاسبة، وهذا ما تدعي وجوده غالبية الدول الغربية، بما فيها إسرائيل، شكليا على الأقل. فهي تحاكم المسؤولين فيها شكليا وتبرئهم لانعدام الأدلة، أو تغير طبيعة التهمة في صفقة مع الادعاء أو تتسامح قوانينها أصلا مع سقوط ضحايا مدنيين أثناء أداء الواجب.
أما نقطة ضعفه الأهم بالنسبة إلى حركة مقاومة فكامنة في أن القانون الجنائي لا يفرق بين المحتل والواقع تحت الاحتلال، فهو يتعامل مع أفراد ارتكبوا جرائم. وقد ثبت مؤخرا أنه حتى المنظمات الحقوقية الدولية تواجه مشكلة بموجب منطقها الشكلي في التفريق بين جريمة مستمرة تتمثل في عنف الاحتلال، والرد المتقطع والاستثنائي عليه، المتمثل في عنف المقاومة.
وما يجعل القانون الجنائي الدولي يحاسب ضابطا إسرائيليا قد يدفعه إلى محاسبة قائد مقاومة فلسطيني على قتل مدنيين إسرائيليين أثناء مقاومة الاحتلال.
وما يمنع ذلك هو فقط حقيقة أن إسرائيل تدعي أنها قادرة على أخذ حقها بيدها. هي تبحث عن «الفاعل» وتخطفه وتحاكمه أو تغتاله وتغتال كل من يقطن المبنى نفسه بقنبلة تزن طنا إذا لزم الأمر.
3 - إذا تخطينا هذه الحواجز، فلا بد، عند التوجه إلى القضاء الجنائي، من التعامل مع القضايا التالية:
أ- ضرورة أن يتم التحضير والتنسيق بين الجهات التي تحضر هذا الملف بشكل لا تجوز فيه الخسارة. فالشعب الفلسطيني ليس بحاجة إلى أن تقوم هيئة دولية بتبرئة إسرائيل من جرائم الحرب لأسباب فنية أو شكلية بعد أن توجه إليها، وبعد أن منحها الشرعية بتوجهه هذا.
ب- ضرورة التعامل مع كافة الشكليات كما هي معطاة. من يذهب إلى المحكمة يذهب بموجب قواعدها، وذلك لكي يربح المحكمة وليس ليخسرها. وهذا يعني أن يقدم الأدلة والطعون التي يمكنه إثباتها وتأكيدها، ويتنازل حتى عن تلك الادعاءات القوية والهامة والتي يعلم علم اليقين بأنها صحيحة، ولكنه لا يستطيع إثبات صحتها بلغة المحاكم.
ج- يجب التمييز بين المعركة والمجزرة، وبين المدنيين الذين قتلوا عند استهدافهم بالقصف أو عند القصف مع العلم التام بوجودهم، والمقاتلين الذين سقطوا في المعركة. بالعربية، كلهم شهداء، وهذا صحيح، وهم كذلك أيضا بمنطق السياسة والأدب. ولكن بلغة المحاكم، يجب التمييز.
ولا بأس بالتمييز، فمن الخطأ، مثلا، أن نعتبر معركة بطولية خاضتها المقاومة مجرد مجزرة. فلا بأس بأن يفخر شعب بنضاله في حالات، وهي حالات لا يصح التوجه بها إلى المحكمة كأن المقاتلين الشجعان هم ضحية مجزرة. يصعب توخي الدقة هنا لأنها تتناقض مع الوعي اليومي والعاطفة والثقافة السائدة.
لقد ارتكبت إسرائيل مجازر في حق السكان يجب عزلها بمبضع جراح، رغم الألم، وإثبات وقوعها وربط المسؤولية عنها بأفراد سياسيين وعسكريين إسرائيليين.
د- القضية الجنائية هي قضية جرم. يجب أن تُستكمل عناصر الجريمة في تعريف الفعل ذاته وتوفر الدافع والأدوات، ويجب أن تساق الأدلة، والتمييز بين الظرفي وغير الظرفي بينها.
4 - في حالة إسرائيل، يجب أن يثبت من تصريحات السياسيين والعسكريين وثقافتهم وأدبياتهم والأجواء السائدة أن استهداف المدنيين إما أن يكون مقصودا للعقاب ولأهداف سياسية، أو تتوفر لديهم معرفة أن المدنيين سوف يتضررون بشدة من اتخاذ خطوة حربية ما، ومع ذلك يتم اتخاذها وارتكاب الفعل.
كما يجب أن يثبت أن القضاء الإسرائيلي الذي ساهم الفلسطينيون، في الأراضي المحتلة، في منحه مصداقية بالتوجه إليه باستمرار، هو قضاء لا يعاقب على جرائم الحرب (من تغريم الآمر في حالة مذبحة كفر قاسم قرشا كعقوبة على المجزرة، وحتى جرائم الحرب المرتكبة في الحروب وفي المناطق المحتلة وآخرها الحربان العدوانيتان على لبنان وعلى غزة).
هنا ننتقل إلى النقطة الأخيرة. لا تستحق المحاكم الدولية الذهاب إليها في الظرف الدولي الراهن، الذي يساوي، في أفضل الحالات، بين المجرم والضحية وغالبا ما يلوم الضحية، إذا كان هذا الذهاب مرهونا بالتنازل عن مواقف سياسية تمنح شرعية لإسرائيل أو يتم فيها التنازل عن حقوق المقاومة والتحرر.
ولكن المحكمة الجنائية مَنْفَذ، لأنها تحمِّل الفاعلين المسؤولية الفردية ولا تتعاطى مع الكيان السياسي ذاته، ولا تترتب عنها أي اشتراطات سياسية على من يتوجه إليها، اللهم تبعات الاعتراف بها عند اتخاذ موقف من المحكمة في مناطق أخرى، مثل العراق ودارفور.
وبالعكس، يجب أن يقوم الادعاء على أن ضحايا إسرائيل المدنيين ليسوا عوارض جانبية تتأتى عن مجرد قصف المقاتلين. وتجب العودة إلى تاريخ الجريمة الإسرائيلية، وحتى ثقافة الجريمة والمذبحة في معاقبة السكان الأصليين وتلقينهم درسا على احتضان المقاومة أو حتى لغرض التهجير.
كما يجب أن يقوم العمل الحقوقي المكثف على رفض الادعاء بأن إسرائيل دولة منظمة لم ينهر فيها النظام القضائي، وأنها قادرة على محاسبة المسؤولين. ففي حالة الأمن والحرب أثبت القضاء الإسرائيلي أنه جزء من آلية القمع والاحتلال، وأن أجهزة الأمن لا تحاسب مجرميها لئلا تمس بدوافعهم القتالية.
5- لا يتوقعن أحدٌ مساهمةً جدية من قبل النظام الرسمي العربي بشأن جرائم الحرب المرتكبة حتى في حق مواطنيه. ففي حالة الحرب، اعتقدت الدول العربية أنه في ما عدا التوجه
الروتيني لمجلس الأمن، تجري الأمور في الحرب كما في الحرب، وأن عليها أن تقتص من إسرائيل بالحرب ذاتها وليس بالبكائيات.
وحين انتقلت الدول العربية إلى التسوية ومبادرات السلام، نشأ انطباع أن هنالك تناقضا بين اتهام حكام إسرائيل بكونهم مجرمين وبين صنع السلام معهم.
ولذلك نلاحظ أن الرسميين العرب إذا ذكروا الجرائم فإنما يذكرونها بخجل وتحفظ بالعربية، ولكن يصعب عليهم إبداء الموقف من مجرم الحرب في سلوكهم. فمن يُتَّهم بجريمة حرب لا يندفع موجهو التهمة إلى اعتباره شريك سلام بعد حرب لبنان، ناهيك
عن عدم اتخاذ حتى المسافة الجسدية اللازمة رصانة حين التعامل مع من يعتبرهم القادة مجرمي حرب، لو صح أنهم يعتبرونهم فعلا مجرمين وأن هذا الأمر يهمهم.
وطبعا، هذا السلوك العربي المزدوج لا يساعد كثيرا على الحلبة القضائية، فلا يصح عند اتهام مسؤول بجريمة حرب أن ترافق الاتهام أخبار مكثفة عن زيارات ومصافحات واستقبالات ومؤتمرات سلام فالعالم ليس غبيا، وهو يبحث باستمرار عن شاهد كفيل لإسرائيل.
إن القانون الجنائي لا يفرق بين المحتل والواقع تحت الاحتلال
نقطة قوة هذه المحكمة (محكمة الجنايات الدولية) هي نقطة ضعفها. فالقانون الجنائي يحاسب أفرادا ويحملهم مسؤولية فردية. وبالتالي، يحقق أثرا رادعا على الأفراد الذين ينفذون وأولئك الذين يصدرون الأوامر.
والاحتكام إليه لا يتطلب تنازلا عن مبادئ أو القبول بقانونية كيانات غير معترف بها، ولا يتنازل عن حق المقاومة. كما أن في هذه الحالة ليست هي المدعي، بل هنالك نوع من «حق عام» دولي افتراضي يجسده المدعي العام، في حين أن المدعى عليه هو مسؤولون عسكريون أو سياسيون بصفتهم الفردية كمجرمين يتحملون مسؤولية أفعالهم لا كدول.
ولكن نقطة الضعف هي أنه لا يسري حيث يوجد قضاء محلي قادر على المحاسبة، وهذا ما تدعي وجوده غالبية الدول الغربية، بما فيها إسرائيل، شكليا على الأقل. فهي تحاكم المسؤولين فيها شكليا وتبرئهم لانعدام الأدلة، أو تغير طبيعة التهمة في صفقة مع الادعاء أو تتسامح قوانينها أصلا مع سقوط ضحايا مدنيين أثناء أداء الواجب.
أما نقطة ضعفه الأهم بالنسبة إلى حركة مقاومة فكامنة في أن القانون الجنائي لا يفرق بين المحتل والواقع تحت الاحتلال، فهو يتعامل مع أفراد ارتكبوا جرائم. وقد ثبت مؤخرا أنه حتى المنظمات الحقوقية الدولية تواجه مشكلة بموجب منطقها الشكلي في التفريق بين جريمة مستمرة تتمثل في عنف الاحتلال، والرد المتقطع والاستثنائي عليه، المتمثل في عنف المقاومة.
وما يجعل القانون الجنائي الدولي يحاسب ضابطا إسرائيليا قد يدفعه إلى محاسبة قائد مقاومة فلسطيني على قتل مدنيين إسرائيليين أثناء مقاومة الاحتلال.
وما يمنع ذلك هو فقط حقيقة أن إسرائيل تدعي أنها قادرة على أخذ حقها بيدها. هي تبحث عن «الفاعل» وتخطفه وتحاكمه أو تغتاله وتغتال كل من يقطن المبنى نفسه بقنبلة تزن طنا إذا لزم الأمر.
3 - إذا تخطينا هذه الحواجز، فلا بد، عند التوجه إلى القضاء الجنائي، من التعامل مع القضايا التالية:
أ- ضرورة أن يتم التحضير والتنسيق بين الجهات التي تحضر هذا الملف بشكل لا تجوز فيه الخسارة. فالشعب الفلسطيني ليس بحاجة إلى أن تقوم هيئة دولية بتبرئة إسرائيل من جرائم الحرب لأسباب فنية أو شكلية بعد أن توجه إليها، وبعد أن منحها الشرعية بتوجهه هذا.
ب- ضرورة التعامل مع كافة الشكليات كما هي معطاة. من يذهب إلى المحكمة يذهب بموجب قواعدها، وذلك لكي يربح المحكمة وليس ليخسرها. وهذا يعني أن يقدم الأدلة والطعون التي يمكنه إثباتها وتأكيدها، ويتنازل حتى عن تلك الادعاءات القوية والهامة والتي يعلم علم اليقين بأنها صحيحة، ولكنه لا يستطيع إثبات صحتها بلغة المحاكم.
ج- يجب التمييز بين المعركة والمجزرة، وبين المدنيين الذين قتلوا عند استهدافهم بالقصف أو عند القصف مع العلم التام بوجودهم، والمقاتلين الذين سقطوا في المعركة. بالعربية، كلهم شهداء، وهذا صحيح، وهم كذلك أيضا بمنطق السياسة والأدب. ولكن بلغة المحاكم، يجب التمييز.
ولا بأس بالتمييز، فمن الخطأ، مثلا، أن نعتبر معركة بطولية خاضتها المقاومة مجرد مجزرة. فلا بأس بأن يفخر شعب بنضاله في حالات، وهي حالات لا يصح التوجه بها إلى المحكمة كأن المقاتلين الشجعان هم ضحية مجزرة. يصعب توخي الدقة هنا لأنها تتناقض مع الوعي اليومي والعاطفة والثقافة السائدة.
لقد ارتكبت إسرائيل مجازر في حق السكان يجب عزلها بمبضع جراح، رغم الألم، وإثبات وقوعها وربط المسؤولية عنها بأفراد سياسيين وعسكريين إسرائيليين.
د- القضية الجنائية هي قضية جرم. يجب أن تُستكمل عناصر الجريمة في تعريف الفعل ذاته وتوفر الدافع والأدوات، ويجب أن تساق الأدلة، والتمييز بين الظرفي وغير الظرفي بينها.
4 - في حالة إسرائيل، يجب أن يثبت من تصريحات السياسيين والعسكريين وثقافتهم وأدبياتهم والأجواء السائدة أن استهداف المدنيين إما أن يكون مقصودا للعقاب ولأهداف سياسية، أو تتوفر لديهم معرفة أن المدنيين سوف يتضررون بشدة من اتخاذ خطوة حربية ما، ومع ذلك يتم اتخاذها وارتكاب الفعل.
كما يجب أن يثبت أن القضاء الإسرائيلي الذي ساهم الفلسطينيون، في الأراضي المحتلة، في منحه مصداقية بالتوجه إليه باستمرار، هو قضاء لا يعاقب على جرائم الحرب (من تغريم الآمر في حالة مذبحة كفر قاسم قرشا كعقوبة على المجزرة، وحتى جرائم الحرب المرتكبة في الحروب وفي المناطق المحتلة وآخرها الحربان العدوانيتان على لبنان وعلى غزة).
هنا ننتقل إلى النقطة الأخيرة. لا تستحق المحاكم الدولية الذهاب إليها في الظرف الدولي الراهن، الذي يساوي، في أفضل الحالات، بين المجرم والضحية وغالبا ما يلوم الضحية، إذا كان هذا الذهاب مرهونا بالتنازل عن مواقف سياسية تمنح شرعية لإسرائيل أو يتم فيها التنازل عن حقوق المقاومة والتحرر.
ولكن المحكمة الجنائية مَنْفَذ، لأنها تحمِّل الفاعلين المسؤولية الفردية ولا تتعاطى مع الكيان السياسي ذاته، ولا تترتب عنها أي اشتراطات سياسية على من يتوجه إليها، اللهم تبعات الاعتراف بها عند اتخاذ موقف من المحكمة في مناطق أخرى، مثل العراق ودارفور.
وبالعكس، يجب أن يقوم الادعاء على أن ضحايا إسرائيل المدنيين ليسوا عوارض جانبية تتأتى عن مجرد قصف المقاتلين. وتجب العودة إلى تاريخ الجريمة الإسرائيلية، وحتى ثقافة الجريمة والمذبحة في معاقبة السكان الأصليين وتلقينهم درسا على احتضان المقاومة أو حتى لغرض التهجير.
كما يجب أن يقوم العمل الحقوقي المكثف على رفض الادعاء بأن إسرائيل دولة منظمة لم ينهر فيها النظام القضائي، وأنها قادرة على محاسبة المسؤولين. ففي حالة الأمن والحرب أثبت القضاء الإسرائيلي أنه جزء من آلية القمع والاحتلال، وأن أجهزة الأمن لا تحاسب مجرميها لئلا تمس بدوافعهم القتالية.
5- لا يتوقعن أحدٌ مساهمةً جدية من قبل النظام الرسمي العربي بشأن جرائم الحرب المرتكبة حتى في حق مواطنيه. ففي حالة الحرب، اعتقدت الدول العربية أنه في ما عدا التوجه
الروتيني لمجلس الأمن، تجري الأمور في الحرب كما في الحرب، وأن عليها أن تقتص من إسرائيل بالحرب ذاتها وليس بالبكائيات.
وحين انتقلت الدول العربية إلى التسوية ومبادرات السلام، نشأ انطباع أن هنالك تناقضا بين اتهام حكام إسرائيل بكونهم مجرمين وبين صنع السلام معهم.
ولذلك نلاحظ أن الرسميين العرب إذا ذكروا الجرائم فإنما يذكرونها بخجل وتحفظ بالعربية، ولكن يصعب عليهم إبداء الموقف من مجرم الحرب في سلوكهم. فمن يُتَّهم بجريمة حرب لا يندفع موجهو التهمة إلى اعتباره شريك سلام بعد حرب لبنان، ناهيك
عن عدم اتخاذ حتى المسافة الجسدية اللازمة رصانة حين التعامل مع من يعتبرهم القادة مجرمي حرب، لو صح أنهم يعتبرونهم فعلا مجرمين وأن هذا الأمر يهمهم.
وطبعا، هذا السلوك العربي المزدوج لا يساعد كثيرا على الحلبة القضائية، فلا يصح عند اتهام مسؤول بجريمة حرب أن ترافق الاتهام أخبار مكثفة عن زيارات ومصافحات واستقبالات ومؤتمرات سلام فالعالم ليس غبيا، وهو يبحث باستمرار عن شاهد كفيل لإسرائيل.